بالصمت لا أقصد امتناعك عن الكلام، ومحاولتك أن تستقبل وتحلل الكلمات التي يتلفظ بها محدثك ، ومن ثمّ التفكير في رد يمنح من تستمع إليه الانطباع بأنّك فعلاً أنصت. فالصمت في حضرة كلام البشر ولغاتهم مهمة مستحيلة. بداخلك دماغ يعلم أن معظم ما يقوله الناس مكرر، أو مخادع، أو على الأغلب عديم القيمة. نادراً ما ستتوقف الحياة عقاباً لشخص لم ينصت إلى حديث بشر. بل أن كل ما نفعله حين نتظاهر بالإنصات هو التفكير في بناء حجة أو رد يظهر للمحيطين بنا أننا على قدر أعلى من الحيلة والقدرة والذكاء، ونستحق المكانة والحظوة الاجتماعية التي نعتاد منحها لكل من يجيد تركيب الكلمات. وإذا أردت دليلاً على هذه الرأي المخالف لما تظنه وتعتقده فلك أن تفكر في الأذن البشرية التي تستطيع الاستماع إلى أي موجة صوتية ترددها بين 20 هرتز و20 كيلو هرتز، بينما المدى الصوتي لحديث البشر يتراوح فقط بين 60 هرتز و255 هرتز. تلك الأذن التي تحملها لم تخلق لتنشغل بلغة البشر وحديثهم.
وبالصمت لا أقصد ما تمارسه وأنت تستمع للموسيقى. الموسيقى هي الأخرى منتج بشري يجذبنا إليه استمتاعنا بتكرار أنماط معينة من الأصوات. وإذا خالف النمط ما تتوقعه أذنك تحولت الموسيقى إلى ضوضاء وخرجت بحكم يتهم عازفها بالرداءة وانعدام الموهبة. فالصمت يتطلب غياب الحكم والتقييم. والصمت يحتّم على أذنك أن تستقبل الأصوات كما هي، لا كما تريد.
غوردون هيمبتون يصنف نفسه كمتتبع وموثّق لأصوات الأرض كما توجد في الطبيعة خالية من الضوضاء
على وجه هذه البسيطة التي تمدد البشر إلى كل بقعة منها، و استهلكوا مواردها وحوّلوها إلى ضوضاء تصل كل أذن مهما ابتعدت في خلوتها.. يصبح الصمت مهنة تحتاج إلى من يحترفها. ولعل أهم من يحترفها بيننا اليوم هو غوردون هيمبتون الذي يصنف نفسه كمتتبع وموثّق لأصوات الأرض كما توجد في الطبيعة خالية من الضوضاء. يصف هيمبتون الصمت بأنه اختفاء البشر وحضور كل صوت في الطبيعة لا يمكنك أن تتحكم في تشغيله أو توجيهه أو حجمه. الصمت هو اختفاؤك منك المشهد، وحضور كل صوت بات أغلبنا يقضي حياته المدنية كاملة دون أن يحظى بفرصة الاستماع إليه.

اكتشف غوردون هيمبتون الصمت، والممارسة الحقيقية للإنصات أثناء استراحة في غابات الشمال الغربي في الولايات المتحدة. أصوات الطبيعة التي لم يكنّ لأي منها علاقة بوجوده هناك تركته بخلاصة واحدة: خلال حياة طولها 27 عاماً، كانت تلك المرة الأولى التي جرب فيها الصمت والإنصات. تلك اللحظة الفارقة في حياتها دفعته إلى اليقين بأن الصمت والسكون على وشك الانقراض من هذا الكوكب، وأن ضوضاء الآلة المدنية التي تبثه مصانعها، ومركباتها ستطال كل شبر في البرّ والبحر. تبع تلك اللحظة ثلاثة عقود تحول خلالها غوردون إلى رحالة يحاول الاختفاء كجماد في أدغال الأرض، وأوديتها، وجبالها ليوثّق أصوات محيطها الحيوي بدون تعليق أو تعديل أو تدخّل. يرافقه في رحلاته مايكروفون ثنائي الالتقاط ليحاكي الطريقة التي يعمل من خلالها جهازنا السمعي. ويصف ذلك المايكروفون بالأستاذ الذي علّمه حرفة الصمت. استحق المايكروفون صفة الأستاذية لأنه لا وعي له. فلا يمكنه الاستماع إلى ما يريد، والحكم على ما يسمع، وتجاهل ما يحكم عليه بعدم القيمة أو الفائدة. ففي وجهة نظر غوردون يحوّل وعينا الاستماع إلى إعاقة بصرية منحنا حظّ التحكم فيها!
الصمت يتطلب غياب البشر، وحضور الطبيعة بأصوات رياحها، ورعدها، وأمواجها، وطيورها. يتطلب العودة إلى المحيط الأولي لتاريخ البشر حين كانت الأذن أهم عضو في الجسد، وما تخبرك به يصنع الفرق بين الموت والحياة. زقزقة طير من بعيد كانت تخبر عن مكان الماء، وأسباب العيش.. وصوت حركة معتدٍ كانت النذير بخطر يستوجب الاختفاء أو الهرب. هل تستطيع أن تتخيل في ذلك المحيط أي قيمة للإنصات إلى كلماتنا ولغتنا التي ابتكرت من أجل الجدل، وتستخدم بنية الغوغاء ؟
يمكنك أن تستمع إلى رحلة غوردون هيمبتون هنا
وهنا يمكنك الاستماع إلى الأصوات التي سجلها من مختلف بقاع الأرض. أصوات لن يحظى أغلبنا بالإنصات إليها دون الحاجة إلى وسيط إلكتروني يمكننا التحكم في تشغيله، وإعادته، وإغلاقه بعد الانزعاج منه!