برجس ونبات السمح

شاهد على التعايش في قلب الصحراء

حينما تحدثك نفسك لزيارة الجوف وشمال السعودية يجب أن تتخيل بأنك واقف أمام مكتبة عظيمة ومجلدات عتيقة من عيون المآثر وقصص الصمود و حكايا الكرم والسخاء ، هذه الأرض كإسمها (الجوف) احتوت التاريخ ومارد والكرم والبسيطاء و الشجاعة و (الرجاجيل)

كنت في عشاء في ضيافة العم عيسى الجارد فقدم لي وجبتهم الشعبية (البكيلة) مزيج من الدقيق الأسود (ادركت فيما بعد أنه السمح) ممزوجاً بتمر حلوة الجوف الذي اشتهرت به. لم يكن كافياً أن أرى السمح وهو في الطبق وحديث رجالات دومة الجندل عنه بحب وشغف وكيف كان أنيسهم عبر السنين يخفف عنهم صقيع برد الشمال وسمومه. ويكفيهم حرّ الموسم وجفافه، وحديثهم عن صعوبة استخراجه وصعوبة الحصول عليه حين يقل المطر وتزيد أسعاره!. 

فدعاني العم ابو صالح لزيارة ابن اخته برجس حيث يجمع السمح كل صباح في أرض بسيطة بجوار (البسيطة) هذه الأرض الزراعية المدهشة التي ما ان تشاهدها عبر الأقمار الصناعية لتكتشف أنها مصدر غذائي هائل بدوائر رشاشات الري المائية وهي تصنع دوائرها الخضراء من الفضاء! 

وبالتأكيد كنت جاهزاً وكاميرتي في الصباح يسبقني شغفي .حينما شاهدت امتداد الأفق تغطيها هذه الشجيرات المتيبسة بلا حياة ادركت صعوبة عملية استخراج بذور السمح وتحويله من نبات متهالك الى غذاء نافع وقتها جال في خاطري سؤال: من الذي اكتشف هذه الحبوب بعمليتها المعقدة!

مع أسئلة أخرى وجدت اجاباتها في هذه الرحلة :
حين اكتشفت بأن بهذه النبتة كمية من الملوحة تجعلها محمية من القوارض والأغنام وحيوانات الرعي.
وما لهذه القشرة التي تغطي حبات السمح الدقيقة من قوة على حفظها لمدة تتجاوز عشرات السنين.
أيضاً انبهاري حين علمت بأن المطر حين يسقط يبدد ما تجمعه هذه الثمرات من بذور لذلك يتسابقون لقطفها قبل أن يغشاها شيء من مطر.

ندرة هذا النبات تكمن في مناطق زراعته المحصورة في وادي السرحان وضواحيه من أودية وشعاب وأراض منبسطة حول البسيطا.

برجس ابتكر طريقته الخاصة في جمع السمح بكمياته الكثيرة اتعماداً على السيارة في حل عملي يغنيه عن الآثار الجانية على يديه حين يستخدم الطريقة التقليدية في جمع حبوب وأغصان السمح.

تقطف فروع السمح باليد وتجمع بطريقتها التقليدية ولكن صالح وصديقه استخدموا طريقة اسرع بربط شراع بمؤخرة السيارة حيث أن فروع السمح جافة سيكون جمعها أسهل لهم بهذه الطريقة !

  • تجمع الاغصان والفروع مع ثمارها بعد أن تجف النبتة في فصل الصيف.
  • يتم هرسها تحت إطارات السيارة لتتكسر الاغصان وتبقى الثمرة (الكعبر) حيث يشكل حماية للبذور لا يحررها إلا الماء أو المطر.
  • تذرى ثمرات (الكعبر) مع الرياح لتستخرج الحجارة والأغصان وتفصل بطريقة سهلة عن الثمرة المغلقة التي تحوي بذور السمح.
  • توضع في الماء لتتفتح تلقائياً وتبقى حبوب السمح في قاع الإناء 
  • تترك حتى تجف ثم تغسل وبعدها تحمص وتطحن.

هذه العملية التي تمر بها ثمرات السمح هي دليل على تكيف أهل الصحراء مع طبيعتهم وكيف حولوا هذه النبتة لغذاء صحي لذيذ كما أثبتت الدراسات التي قرأتها في كتاب السمح للأستاذ سليمان الشراري باحتواء السمح على كمية كبيرة من البروتين والدهون مقارنة بغيرها من الحبوب حسب اختبارات قدمها لبعض المراكز المحلية والعالمية.

السمح بعد أن يصفى ويحمص ويطحن .. يقدم نكهة متفردة أقرب ما تكون للسمسم ولكن بلون أكثر سواد مما يزيدها غموضاً حين تخلط بغيرها من خيرات أرض الجوف، وعبر الزمن ابتكر أهلي هذه المناطق أطباقاً تميزوا بها منها :
– البكيلة : حين تخلط بتمر الجوف وحلوته مع قليل من السمن لتنتج هذه العجينة الحالية.
– البسيسة: مزيج السمح مع مقدار ضئيل من السمن أو الدبس.
– البثوليلة: خليط السمح من نوعيه الصبيب والطحين.

أصبح أهالي الجوف اليوم يقدمونها كخبز محلي يغني عن خبز الدقيق كما أصبح استخدامها في الحلويات العصرية رائجاً كاستخدامها مع التشيز كيك و المعمول والكوب كيك وغيرها من الأفكار التي يمكن ابتكارها بأي دقيق أخر.

برجس اليوم.. يعمل بحب لجمع هذه النبتة من الصحراء وتقديمها للناس في آخر مراحلها كصبيب أو دقيق مع عائلته الكريمة الذين أكرموني بكمية لذيذة من هذا المحصول الفاخر لهذه النبتة النادرة

شكراً:
د. أحمد الشعلان
د. وليد الشعلان
أ. بدر الشعلان
أ. شريدة السلطان
أ. فارس السراء
أ.عيسى الجارد
أ. برجس
أ. صالح الجارد
أ. بدر الزارع